مشروع بقيمة 500 مليار دولار لتطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة
يشهد العالم في الآونة الأخيرة تسارعًا غير مسبوق في الاستثمار بمجال الذكاء الاصطناعي (AI) وتطويره، حيث أصبحت شركات التكنولوجيا الكبرى تسابق الزمن لتأمين أكبر قدر ممكن من القدرات الحاسوبية والبنية التحتية اللازمة لتشغيل منظومات الذكاء الاصطناعي وتدريبها. وفي هذا السياق، أُعلِن عن مشروع ستارغيت (Stargate) الذي وُصِف بأنه أكبر مشروع على الإطلاق لبناء بنية تحتية مخصصة للذكاء الاصطناعي بتكلفة تصل إلى 500 مليار دولار أمريكي على مدى أربع سنوات، مع تمويل فوري بقيمة 100 مليار دولار. وفيما يلي نظرة شاملة على هذا المشروع الضخم، والشركات الداعمة له، والأهداف الرئيسة وراء إنشائه، بالإضافة إلى خلفياته السياسية والاقتصادية.
أولًا: خلفية مشروع ستارغيت وأطرافه الرئيسة
1. إعلان المشروع وتوقيته
أُعلِن عن مشروع ستارغيت في البيت الأبيض بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي وصفه بأنه “أكبر مشروع للبنية التحتية الخاصة بالذكاء الاصطناعي في التاريخ”. جاء هذا الإعلان في خضم سباق عالمي لتطوير البنية التحتية الرقمية واكتساب قصب السبق في مجال الذكاء الاصطناعي، لا سيما بين الولايات المتحدة والصين. وعلى الرغم من أنّ التخطيط للمشروع بدأ قبل تولّي ترامب فترة رئاسية جديدة، فقد جرى طرحه رسميًا بعد الانتخابات، الأمر الذي أكسبه زخمًا إضافيًا واهتمامًا حكوميًا مباشرًا.
2. الشركاء الاستثماريون الرئيسون
يتألف “مشروع ستارغيت” من شراكة متعددة الأطراف بين كلٍّ من:
•شركة أوبنAI (OpenAI): الشركة المطوّرة لأشهر نماذج الذكاء الاصطناعي مثل GPT. وهي المسؤولة عن الجزء التشغيلي للمشروع، حيث ستتولى إدارة عمليات تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي وتشغيلها.
•مجموعة سوفت بنك (SoftBank) اليابانية: يرأسها الملياردير “ماسايوشي سون”. تُعَد مجموعة سوفت بنك أحد أكبر الصناديق الاستثمارية في العالم، حيث تساهم بمسؤولية مالية رئيسة في المشروع، وتتحمل جزءًا هامًا من التكلفة الكبيرة المقدرة بـ 500 مليار دولار.
•شركة أوراكل (Oracle): عملاق قواعد البيانات والحوسبة السحابية الأمريكية، لها خبرة واسعة في مجال البنية التحتية والخدمات السحابية. ستشارك في بناء وإدارة مراكز البيانات ضمن مشروع ستارغيت.
•صندوق إم جي إكس (MGX): صندوق تكنولوجي تابع لإمارة أبوظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، يُعزّز الاستثمارات الدولية في التقنيات المتقدمة. دخول هذا الصندوق إلى المشروع يبرز الدور المتزايد لدول الخليج العربي في المشروعات التكنولوجية الكبرى.
تُشير التقديرات إلى أنّ “سوفت بنك” و”أوبنAI” هما الشريكان القائدان في المشروع: تقوم سوفت بنك بتوفير الجزء الأكبر من التمويل، بينما تتولى أوبنAI العمليات الفعلية لتشغيل نظم الذكاء الاصطناعي وتوجيه مسار تطوير التكنولوجيا.
اقرأ أيضًا: ستارغيت: بين آمال ترامب ومخاوف ماسك في سباق التقنية العملاق
3. الشركاء التقنيون الرئيسيون
في سياق الإعلان الرسمي، ذُكِر أنّ هناك شركات تكنولوجية كبرى ستشارك في الدعم التقني للمشروع، أبرزها:
•شركة مايكروسوفت (Microsoft): لديها شراكة قائمة مع أوبنAI، استثمرت سابقًا مليارات الدولارات، وقد أبدت اهتمامًا كبيرًا بإنشاء مراكز بيانات هائلة لدعم الذكاء الاصطناعي عبر خدمتها السحابية “آجر” (Azure).
•شركة إنفيديا (NVIDIA): رائدة في تصميم الرقائق والبطاقات الرسومية (GPUs) المستخدمة بصورة أساسية في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.
•شركة آرم (Arm): متخصصة في هندسة وتصميم المعالجات، وتلعب دورًا حيويًا في توفير التصميمات اللازمة لتجهيز شرائح الذكاء الاصطناعي.
•أوراكل (Oracle): فضلاً عن كونها مستثمرًا في المشروع، فهي أيضًا شريك تقني يملك خبرات واسعة في بناء مراكز البيانات والبنية السحابية.
ثانيًا: أهمية مشروع ستارغيت ودوافعه
1. سباق عالمي على الذكاء الاصطناعي
يشهد العالم حاليًا سباقًا محمومًا نحو تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوسيع استخدامها في شتى المجالات. ولا تقتصر دلالة هذا السباق على البعد الاقتصادي فحسب، بل تشمل كذلك البعد الأمني والسياسي، إذ تنظر الدول الكبرى إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة حاسمة لتعزيز قوتها التنافسية العالمية. في المقابل، تواجه الشركات الراغبة في تطوير نماذج أقوى من الذكاء الاصطناعي تحديات كبيرة تتعلق بنقص القدرة الحاسوبية المتاحة، سواء من حيث الطاقة الكهربائية اللازمة أو سعة المعالجات ووحدات معالجة الرسوم (GPUs).
2. دور البيانات الضخم ومراكز البيانات
من أبرز التحديات التي تواجه الشركات المطورة للذكاء الاصطناعي الحاجة إلى بناء مراكز بيانات هائلة الحجم تضم آلاف الرقائق المتخصصة، لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على كميات ضخمة من البيانات. تتطلّب عملية “التدريب” كميات هائلة من القدرة الحاسوبية والطاقة الكهربائية، قد تستمر لأسابيع أو شهور في بعض الأحيان. لذلك، تهدف “ستارغيت” إلى تسريع بناء هذه البنية التحتية، لتكون الولايات المتحدة في موقع الريادة العالمية في مجال تخزين البيانات ومعالجة الذكاء الاصطناعي.
3. استراتيجية البنية التحتية والطاقة
يسلّط المشروع الضوء على محورين أساسيين: البنية التحتية الرقمية من ناحية، والطاقة من ناحية أخرى. إذ لا يكفي توفير سعة حاسوبية ضخمة من الشرائح والرقائق؛ فالقدرات الكهربائية المرافقة لها ضرورية للتشغيل دون انقطاع وبشكل مستمر لفترات طويلة. وعد الرئيس ترامب في إعلانه عن المشروع أنّ إدارته ستوفّر تيسيرات من خلال “إعلانات الطوارئ” (Emergency Declarations) تتيح تجاوز بعض التعقيدات التنظيمية والإدارية، بحيث يمكن للمشروع بناء منشآت توليد الطاقة الخاصة به، أو الحصول على تسهيلات ضخمة من شركات الكهرباء.
4. الأبعاد الاقتصادية وتوليد فرص عمل
يُتوقّع أن يخلق مشروع ستارغيت نحو 100 ألف وظيفة في قطاع التكنولوجيا والبنية التحتية في الولايات المتحدة، وبخاصة في الولايات التي سيتأسس فيها مراكز بيانات جديدة. ويلمح إعلان المشروع إلى “إعادة التصنيع” أو “إعادة الصناعة” (Re-industrialization) للولايات المتحدة عبر تركيز المشاريع الضخمة في الداخل الأمريكي، وإعادة الحيوية للقطاعات المرتبطة بتشييد المرافق العملاقة، مثل البناء والطاقة وتصنيع الشرائح وتطوير البرمجيات.
ثالثًا: الموقع الجغرافي والبدء في التنفيذ
1. البداية في ولاية تكساس
أكّد “لاري إليسون” الرئيس التقني لأوراكل أنّ أعمال البناء قد بدأت في مركز بياناتٍ ضخم في ولاية تكساس. تُعد تكساس واحدةً من أبرز الولايات التي تشهد نموًا هائلًا في القطاع التقني وقطاع الطاقة، إذ تتميز بوفرة الأراضي وانخفاض نسبي في تكاليف التشغيل، إلى جانب سياسات حكومية تشجّع الاستثمار.
2. توسيع النطاق إلى ولايات أخرى
بحسب التصريحات الرسمية، لا يتوقف البناء على تكساس وحدها، بل يُتوقّع أن يمتد إلى مواقع أخرى في الولايات المتحدة. وتُدرس حاليًا خيارات متعددة لاختيار مواقع استراتيجية تتوفر فيها خدمات البنية التحتية والطاقة، وقدرة على جذب المواهب البشرية المؤهلة. ويرتبط هذا النطاق الموسع من المراكز بطبيعة التوجهات في إنشاء منظومات موزّعة جغرافيًا، وذلك لتقليل مخاطر الانقطاع وضمان أمان واستقرار العمليات.
3. دور السياسة الفيدرالية
تعهد الرئيس ترامب بأن تدعم إدارته المشروع عبر تسهيلات حكومية، مثل إصدار إعلانات الطوارئ للتسريع في الموافقات والتصاريح اللازمة لإقامة هذه المرافق، وكذلك استخدام الأدوات التشريعية والتنظيمية عند الحاجة. ويؤشر هذا المسار إلى أنّ الحكومة الفيدرالية تنظر إلى مشروع ستارغيت بوصفه مسألة “أمن قومي”، نظرًا لما يشكله الذكاء الاصطناعي من أهمية استراتيجية في تعزيز المكانة الأمريكية عالميًا.
رابعًا: المواقف والجدل المثار حول المشروع
1. موقف إيلون ماسك واعتراضاته
بالرغم من أنّ إيلون ماسك يعدّ أحد المستشارين الكبار لترامب في الملفات التكنولوجية، فقد وجّه انتقادات صريحة للمشروع بعد الإعلان عنه. أشار ماسك في منشورٍ على منصة “إكس” (تويتر سابقًا) إلى أنّ الجهات المشاركة في “ستارغيت” “لا تملك فعلًا مبلغ 500 مليار دولار”، وأنّ معظم الأموال الموعودة غير مؤمَّنة بعد. وأضاف أنّ سوفت بنك لا تملك سوى أقل من 10 مليارات دولار جاهزة للاستثمار في الوقت الراهن. هذه التصريحات أثارت رد فعل فوري من الرئيس التنفيذي لأوبنAI، سام ألتمان، الذي نفى ادعاءات ماسك ودعاه للاطلاع المباشر على أعمال البناء الجارية.
2. العلاقة المتوترة بين ماسك وألتمان
الجدير بالذكر أنّ العلاقة بين ماسك وألتمان قد شابها التوتر منذ خروج ماسك من مجلس إدارة أوبنAI في عام 2018، وتدشينه لاحقًا لشركة منافسة في مجال الذكاء الاصطناعي تحمل اسم xAI. هناك اتهامات متبادلة؛ إذ يتهم ماسك أوبنAI بالحياد عن مبادئ التأسيس المفتوح، فيما يرى ألتمان أنّ طموحات ماسك الشخصية هي السبب الحقيقي وراء الخلافات. وعلى الرغم من ذلك، يبقى ماسك في موقع مؤثر في المشهد الأمريكي، لامتلاكه عدة شركات تكنولوجية مهمة على غرار تسلا وسبيس إكس، علاوة على منصّة “إكس” العملاقة.
3. جدل مصادر التمويل الأجنبية
أثار دخول صندوق إم جي إكس (MGX) الإماراتي نقاشًا حول مدى اعتماد الولايات المتحدة على استثمارات أجنبية في قطاع بالغ الحساسية والأهمية الاستراتيجية كالذكاء الاصطناعي. ينظر بعض المراقبين بعين الشك إزاء منح نفوذ كبير لأطراف خارجية في بُنية أساسية تُعدّ “شريانًا” للأمن القومي في المستقبل. ومن جانب آخر، يشير مؤيدو هذه الشراكات إلى أنّ الاستثمارات الخليجية باتت حاسمة في العديد من القطاعات التقنية في وادي السيليكون، وأن تدفق رؤوس الأموال الأجنبية يسهّل تحقيق المشاريع العملاقة التي تتطلب تمويلًا استثنائيًا.
4. التأثيرات البيئية وملف الطاقة
إلى جانب المسألة الأمنية، يبرز أيضًا القلق من الأثر البيئي لزيادة بناء مراكز البيانات الضخمة، التي تستهلك كميات هائلة من الطاقة والمياه لتبريد الخوادم. ويخشى نشطاء البيئة من أنّ التحول المفاجئ نحو تعزيز مشاريع الذكاء الاصطناعي قد يبطئ جهود التحول إلى الطاقة النظيفة، خصوصًا مع خطط إدارة ترامب السابقة للعودة إلى استخدام الفحم وزيادة إنتاج النفط والغاز. مع ذلك، يسعى بعض الشركاء التقنيين إلى الدمج بين مصادر الطاقة المتجددة والوقود الأحفوري، رغم أنّ الصورة العامة لم تتضح بعد بخصوص توزيع مصادر الطاقة لمشروع ستارغيت.
خامسًا: دور كل شركة في مشروع ستارغيت
1. أوبنAI: العمود التشغيلي
تعد “أوبنAI” العقل المدبر على صعيد البرمجيات وتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي العملاقة، بعد أن اشتهرت بإصدار نموذج ChatGPT وتطبيقه في العديد من المجالات. ستُخصص قدرات الحوسبة الهائلة التي ينوي مشروع ستارغيت إضافتها، بغية تطوير نماذج مستقبلية يُشار إليها أحيانًا بـ”الذكاء الاصطناعي العام” (Artificial General Intelligence) – وهي نماذج يُتوقع قدرتها على تنفيذ أغلب المهام المعرفية أفضل من البشر.
2. سوفت بنك: المحرك المالي
تنشط مجموعة سوفت بنك اليابانية في الاستثمار في شركات التكنولوجيا الناشئة والعملاقة. تقوم المجموعة بتوفير حصة كبيرة من التمويل الكلي للمشروع، حيث يتعهد “ماسايوشي سون” بتوجيه صندوق ضخم من الاستثمارات نحو بناء مراكز البيانات وشراء الرقاقات وتمويل العمليات التشغيلية. ترتبط سمعة سوفت بنك بمشروعات ضخمة ومخاطر عالية، ما يجعلها مرشحةً لدعم الأفكار الطموحة.
3. أوراكل: بناء وإدارة مراكز البيانات
لطالما اشتهرت أوراكل بقواعد البيانات المؤسسية، لكنّها تركز حاليًا على تطوير خدماتها السحابية لتنافس لاعبين كبارًا في هذا السوق مثل أمازون ومايكروسوفت. في مشروع ستارغيت، ستتعاون أوراكل مع أوبنAI وإنفيديا لبناء وتشغيل مراكز البيانات عالية الكفاءة، بما في ذلك إمدادات التبريد والطاقة والدعم الفني.
4. إم جي إكس: الاستثمار الإماراتي
يُعد صندوق إم جي إكس (MGX) ممولًا تقنيًا مدعومًا من حكومة أبوظبي. وعلى الرغم من عدم تسليط الضوء على قيمة الاستثمار الدقيقة، فإن MGX مشارك مهم في ستارغيت، نظرًا لرغبة أبوظبي في تنويع مصادر استثماراتها التكنولوجية وتوسيع حضورها الدولي في قطاعات المستقبل.
5. مايكروسوفت: علاقة متجددة مع أوبنAI
رغم أن مشروع ستارغيت لا يُعدّ حصرًا ضمن الحوسبة السحابية التابعة لمايكروسوفت، فإن مايكروسوفت ما تزال شريكًا استراتيجيًا لأوبنAI. ويُعتقد أنّ جزءًا من عمليات التدريب سيتم على خوادم “آجر” (Azure) لدى مايكروسوفت، حيث تستمر الاتفاقيات طويلة الأمد التي أُبرمت منذ أول استثمار ضخم لمايكروسوفت في أوبنAI. كما أنّ إعلان ستارغيت يمهد الطريق لخيارات مرنة أمام أوبنAI من حيث تنويع البنية التحتية السحابية.
سادسًا: تداعيات المشروع على مستقبل الذكاء الاصطناعي
1. التسارع في تطوير الذكاء الاصطناعي العام (AGI)
يأمل كثير من خبراء التكنولوجيا أن تساهم مراكز البيانات فائقة الضخامة في تسريع الوصول إلى “الذكاء الاصطناعي العام”، حيث يتجاوز أداء هذه النماذج مجرد تنفيذ مهام محددة إلى تحقيق مستوى إدراكي واسع يحاكي (أو يتفوق على) القدرات البشرية في مختلف المجالات. يعوّل المدير التنفيذي لأوبنAI، سام ألتمان، على أنّ الموارد الهائلة لهذه المراكز ستمكّن من إجراء تجارب في نطاق أكثر شمولًا، ما قد يؤدي إلى طفرات جديدة في قدرات النماذج اللغوية والمرئية والصوتية.
2. تشكيل أسس اقتصاد المستقبل
يُشير كثير من الخبراء الاقتصاديين إلى أنّ الذكاء الاصطناعي سيصبح بمثابة “العمود الفقري” للعديد من القطاعات في المستقبل، بدءًا من التصنيع، ومرورًا بالخدمات الصحية والتعليم، ووصولًا إلى القطاع العسكري. بالتالي، فإن بناء قاعدة بيانات ضخمة وبنية تحتية شاملة للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة يمنحها قوة هائلة في مجالات متعددة، ويسمح للشركات الناشئة والأفراد بالابتكار على أرضية صلبة، ما يخلق بيئة تُحفّز الاستثمار وتدعم التوسع.
3. السباق التكنولوجي الأمريكي–الصيني
في ضوء التوترات بين الولايات المتحدة والصين على المستوى التجاري والتكنولوجي، يبرز “مشروع ستارغيت” كأداة إستراتيجية لإبقاء التطورات المحورية في الذكاء الاصطناعي “داخل حدود الولايات المتحدة”، كما عبّر ترامب. يأتي هذا الطموح مصحوبًا بإجراءات أخرى كانت تُطرح في دوائر صنع القرار الأمريكي، مثل تقييد تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي المتطورة لبعض الدول، وإجبار الشركات على جعل بيانات الذكاء الاصطناعي الحساسة داخل البلاد.
4. دور اللوائح والقوانين المستقبلية
رغم أنّ ترامب ألغى قرارات سلفه جو بايدن بشأن تنظيم استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي، تلوح في الأفق حاجة ماسة إلى تشريعات أو قوانين فيدرالية لضبط الأخطار المحتملة. فمع تضخم قدرات هذه النماذج، تتزايد المخاوف الأخلاقية والأمنية والاقتصادية (كتأثيرها على الوظائف البشرية، وخصوصية البيانات، واحتمالية التلاعب بالرأي العام). لذا من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة جدلًا بين الشركات التكنولوجية والهيئات التشريعية بشأن شكل التنظيم الأمثل لتطوير وتشغيل هذه النظم العملاقة.
سابعًا: التوقعات والتحديات المستقبلية
1. مدى توفر التمويل الضخم
بالرغم من إعلان رقم 500 مليار دولار، لا تزال هناك تحديات في ضمان توفر المبالغ الاستثمارية على أرض الواقع. إذ لفت إيلون ماسك الانتباه إلى احتمال عدم تأمين كامل الأموال، في حين يُصر أطراف المشروع على توافر 100 مليار دولار مبدئيًا، على أن تستكمل بقية المبالغ خلال أربع سنوات. يعتمد نجاح هذه المساعي على ثقة المستثمرين العالميين، وتحقيق المشروع لمراحل إنجاز واضحة تجذب المزيد من التمويل.
2. معالجة المشكلات اللوجستية
لن يقتصر النجاح على توفير الشرائح والخوادم فقط؛ بل يحتاج المشروع لحل المشكلات اللوجستية، مثل توافر الأراضي المناسبة، والحصول على الموافقات المحلية والفيدرالية، وتوفير بنية تحتية للطاقة قادرة على إمداد المراكز الضخمة بالكهرباء باستمرار. ويتطلب ذلك تنسيقًا مع الحكومات المحلية في الولايات المختلفة، إضافةً إلى إدارة علاقات مع شركات المرافق العامة والموردين.
3. الأزمة البيئية واستهلاك الموارد
من المتوقع أن تستهلك مراكز البيانات كميات هائلة من الكهرباء والمياه (للتبريد). ومع تصاعد الحديث عن تغير المناخ وضرورة تقليل الانبعاثات الكربونية، قد تواجه “ستارغيت” ضغوطًا كبيرة من دعاة البيئة والساسة المطالبين بتعهدات بيئية واضحة. وإذا ثبت أنّ هذه المراكز تعتمد بكثافة على الوقود الأحفوري، فسيؤدي ذلك إلى تأجيج الانتقادات حول البصمة الكربونية العالية للذكاء الاصطناعي.
4. التنافس بين مقدمي الخدمات السحابية
حتّى الآن، كان يُنظر إلى أوبنAI بوصفها شريكًا حصريًا لمايكروسوفت في مجال البنية السحابية. لكنّ مشروع ستارغيت قد يفتح الباب أمام حلول بديلة توفرها أوراكل أو غيرها من المزودين. وعلى الرغم من استمرار شراكة أوبنAI مع مايكروسوفت، قد تشهد الفترة المقبلة تنافسًا حادًا بين مزودي السحابة الكبار، ما قد ينعكس إيجابيًا في صورة تطوير أسرع للبنية التحتية وانخفاض بعض التكاليف.
5. التطوير العسكري والأمن السيبراني
لا يمكن إغفال البعد الأمني، فمع إنشاء بنية تحتية ضخمة لهذا المستوى من الحوسبة، سيكون الجيش الأمريكي ووكالات الأمن القومي من أبرز المستفيدين المحتملين. إذ تفتح القدرات الهائلة لتحليل البيانات الضخمة أبوابًا واسعة في مجالات التجسس الرقمي وتطوير الأسلحة الذكية والدفاع السيبراني. ويرى بعض المراقبين أنّ هذا سيوفّر للولايات المتحدة تقدمًا استراتيجيًا في مواجهة خصومها، بينما يخشى آخرون من زيادة سباق التسلح الدولي باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ثامنًا: خلاصة واستشراف للمستقبل
يمثل مشروع ستارغيت منعطفًا تاريخيًا في مسيرة الذكاء الاصطناعي، لما له من دور في بناء قواعد متينة للبنية التحتية الحاسوبية وتطوير نماذج متقدمة قد تشكل ملامح العالم التقني في السنوات المقبلة. ويجمع المشروع بين أطراف قوية ماليًا وتكنولوجيًا، ضمن مسعى لتسريع الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، والحفاظ على صدارة الولايات المتحدة في هذا السباق المحتدم عالميًا.
على الرغم من الحماسة التي أثارها المشروع، لا يخلو الطريق من تحديات تقنية ومالية وقانونية، بالإضافة إلى ضرورة التوفيق بين طموحات الشركات العملاقة وأهداف الأمن القومي الأمريكي والمخاوف البيئية والأخلاقية. وفي حين رحّب الرئيس ترامب بهذا المشروع وأبدى استعدادًا لتقديم تسهيلات حكومية واسعة، يواجه “ستارغيت” منافسة دولية شرسة من قوى أخرى مثل الصين، تسعى بدورها لتطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، ووضع معايير عالمية خاصة به.
في المقابل، تظل هناك فرص هائلة للنمو الاقتصادي وخلق الوظائف وتطوير تقنيات متقدمة قادرة على إحداث ثورة في التصنيع والزراعة والرعاية الصحية والتعليم وغيرها. فقدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز الإنتاجية وحل المشكلات المعقدة قد تُحدث طفرة حقيقية في النمو الاقتصادي والابتكار البشري. ومن هذا المنطلق، ينظر كثيرون إلى “ستارغيت” باعتباره استثمارًا بعيد المدى في مستقبل الولايات المتحدة والعالم أجمع.
خلاصة القول: إنّ مشروع ستارغيت يجسد طموحًا تكنولوجيًا هائلًا بقيمة 500 مليار دولار، يركز على بناء أكبر شبكة لمراكز البيانات الضخمة في الولايات المتحدة، يشترك فيه عمالقة التكنولوجيا والاستثمار العالميون. وإذا ما نجح المشروع في توفير الموارد المالية اللازمة وحل المشكلات اللوجستية والبيئية المرافقة، فقد يدخل التاريخ بوصفه أبرز مشروع بنية تحتية للذكاء الاصطناعي في القرن الواحد والعشرين، ويشكل قاعدة انطلاق لتطور نوعي في قدرات الذكاء الاصطناعي وتأثيره على الاقتصاد العالمي والمجتمع. ومع ذلك، يبقى نجاحه مرتبطًا بقدرة الأطراف كافة على التنسيق والعمل المشترك، وتجاوز المعوقات السياسية والتمويلية والبيئية، في ظل منافسة دولية مستعرة للفوز بعرش الذكاء الاصطناعي وإمكاناته الخلاقة.